فصل: باب: كِتَابَةِ العِلم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلّم

واعلم أنَّ الجمهورَ على أن الكذبَ على النبي صلى الله عليه وسلّم عمداً من أشدِّ الكبائر‏.‏ وذهب أبو محمد الجُويني- من كبار الفقهاء- إلى أنه كفرٌ‏.‏ وأيَّده من المتأخرين الشيخ ناصر الدين بن المنير وأخوه الصغير زين الدين بن المنير‏.‏ وأما من فرق بين الكذب عليه والكذب له تمسكاً، بقوله‏:‏ من تكذب عليّ فإنه جاهل، فإن الكذب كيف كان ليس له في حال بل هو عليه في كل حال فلا يجوزُ الكذبُ في الترغيب والترهيب أيضاً‏.‏ والكذب بكسر الذال اسمٌ، وبسكونها مصدرٌ‏.‏

قال العيني‏:‏ من ذكر حديثاً موضوعاً بدون ذكر وضعِهِ أو غَلِط في الإعراب فهو أيضاً تحت هذا الوعيد‏.‏

قال الحافظ في «الفتح»‏:‏ إن هذا الحديث ثابت عن ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم قلت‏:‏ وهو عندي عن خمسينَ منهم‏.‏ والحاصل‏:‏ أنه حديثٌ متواترٌ قطعاً‏.‏

فائدة

واعلم أني لم أجد أتقن في باب النقل من المحدثين، ثم الفقهاء، ثم أهل اللغة فإنهم لا يأتون بحديث لا يكون له أصلٌ في كتب الحديث‏.‏ وأما الذين أشربت قلوبهم فنَّ المعقول فإنه تبيَّن بعد الاستقراء أنهم لا عِلم لهم بأن الحديث ما هو‏؟‏ وأن البحثَ عن الأسانيد ماذا‏؟‏ ولكنهم إذا سمعوا الناس قالوا في كلام‏:‏ إنه حديث، جعلوا يقولون‏:‏ إنه حديث وإن كان موضوعاً‏.‏

109- قوله‏:‏ ‏(‏مكي بن إبراهيم‏)‏ وهو حنفيٌ من أصحاب أصحاب أبي حنيفة رحمه الله‏.‏ وهذا أول الثلاثيات عند البخاري، وهي أزيدُ عند الدارمي منه، فإن الدارميَّ أكبر سناً منه، وشيء منها عند ابن ماجه أيضاً وليست عند أحد من الصحاح غيرهما‏.‏ وفي «مسند الإمام أبي حنيفة» الثنائيات أيضاً‏.‏ وقد مرَّ أنه تابعيٌ رؤيةً وتبع التابعين رِوَايةً، فإنه ثبتَ رؤيتُهُ أنساً رضي الله تعالى عنه عند الكل‏.‏ وادَّعى العيني أنه رأى سبعة من الصحابة‏.‏ وردها العلامة قاسم بن قُطَلُوبُغَا وقال‏:‏ إنه لم يثبت له غير رؤية أنس رضي الله عنه‏.‏ وقال الحافظ رحمه الله تعالى‏:‏ إن العلامة قاسم مُتقنٌ وهو في اصطلاحهم من لا يغلطُ في إسماء الرواة وألفاظ الحديث‏.‏ قلت‏:‏ بل هو حافظ، وإن لم يكن مثل الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى‏.‏

ثم إن «مسند الإمام» إنما جُمِعَ بعده، والمتداول في الأيدي هو «مسند الخوارزمي» وهو المشهور ب«مسند الإمام»‏.‏ وقد كان جَمْعَهَ عشرة من الناس منهم حفاظ، ثم جمعَ الجميعَ الخوارزمي ثم جمع «مسنده» أربعة من الأئمة أيضاً‏:‏ منهم أبو بكر المقرىء، وأبو نُعيم الأصْبَهاني وهذه المسانيد مفقودة كلها‏.‏ وأحسن ما يمكن جمع مسنده من أمالي أبي يوسف رحمه الله تعالى، وكان يملي في زمان قضائه‏.‏ وقد حضرَ في مجلس إملائه أحمد رحمه الله تعالى وابنَ معين أيضاً وعن ابن مَعين عندي أن أبا يوسف رحمه الله تعالى كان يحفظُ في زمن حفظهِ ستين حديثاً في مجلس واحد، وليس في «الجامع الصغير» حصة من الأحاديث‏.‏ نعم، في «المبسوط» حصة منها، لكن الآفة فيها أن الطابع لم يميز فيما بين كلام محمد وكلام الشارح، وكذا حذف الأسانيد فتعطلت عن الفائدة‏.‏

110- قوله‏:‏ ‏(‏تسموا باسمي‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏)‏ كان دأب العرب أنهم إذا دعوا أحد أو أرادوا توقيره، دعوه بكنيته دون اسمه، وعليه ما جاء في الحديث أن رجلاً دعا أحداً بأبي القاسم، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلّم فقال الرجل‏:‏ إني لم أردكَ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلّم أن يُكْتَنَى أحد، يكنيته لئلا يحصلَ الالتباس، ولذا قال بعض العلماء‏:‏ إن النهى مقتصر على زمانه، سواء تَكنَّى منفرداً أو مع اسمه الشريف‏.‏ وفي المسألة أقوال عديدة ذكرها الشارحون‏.‏

110- قوله‏:‏ ‏(‏من رآني في المنام‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏)‏ والمعنى‏:‏ من تعلقت رؤياه بي فهو تعلق صحيح، أي من تعلقت رؤياه بي في اعتقاده فهي رؤيا صحيحة، كذا قال صاحب «القوت»‏.‏

واعلم أن اختُلف في رؤيته صلى الله عليه وسلّم ومراد الحديث‏.‏

فقال بعضهم‏:‏ إنه مخصوصٌ بما إذا رآه في حليته المباركة، واعتبر هؤلاء أطوارَ الحلية ولم يجوزوا المخالفة ولو بشعرة، فإن كان رآه في حليةِ صباه ينبغي أن تطابق بما كانت حليته فيه، وكذا في حلية الشباب والشيخوخة‏.‏ ونقل البخاري عن ابن سِيرين في كتاب الرؤيا أنه كان يسأل الرائي عن حليته التي رآه فيها، فهذا دليلٌ على اعتباره أطوار الحلية، وهذه الجماعة قليلة‏.‏

وعممها بعضهم وقالوا‏:‏ إن المرئي هو النبي صلى الله عليه وسلّم في أي حلية كان إذا كان عنده أنه رآهُ، ولم يعتبروا المطابقةَ بين الحلية المرئية والحلية التي هي حليتُهُ‏.‏ ولما ضيَّق الأولونَ في رؤيته وقيدوها بتقييداتٍ وسعَوا في اعتبار أقواله الحُلمية، بخلاف الجمهور فإنهم إذا وسَّعوا في أمر الرؤية ضيَّقوا في اعتبار تلك الأقوال، ولكنها تُعرضُ على الشريعة عند جميعهم، فإن وافقت قُبلتِ وإلا لا‏.‏وما ذكره النووي رحمه الله تعالى مضرٌ جداً، لأن ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم به هو في رؤيته، ولم يخبرنا بأنه يقول له ويكلمه أيضاً، فما ثبتَ عنه يقظةً لا يُترك بما رئي مناماً‏.‏

وأيضاً النائم ليس على يقينٍ من كلامه ولا من كلام تلك الصورة المُرتبة، وليست تلك صورةٌ بصرية، بل رؤيا حُلمية، وأكثر الناس لا يعرفون حقيقتها، فلذا لا يجبُ الأخذ بها‏.‏ ولكن إذا لم تخالف حكماً ظاهراً من الشرع حَسُن العملُ بها أدباً مع صورته صلى الله عليه وسلّم أو مِثالها‏.‏ ولا ندَّعي أنه قاله صلى الله عليه وسلّم في الواقع، ولا أنه خاطبه، ولا أنه انتقل من مكانه، ولا أنه أحاط علمه الشريف بذلك البتة، وإنما الله أراه إياهُ لحكمةٍ علمها‏.‏ وراجع له «شرح منهاج السنة» للسبكي‏.‏

وفيه حكاية ذكرها الشيخ عبد الحق رحمه الله تعالى‏:‏ أن رجلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلّم في المنام يقول‏:‏ اشرب الخمر، وكان الشيخ علي المتقي حياً إذ ذاكَ وهو حنفي، شيخ لمحمد طاهر صاحب «مجمع البحار»، وهو أيضاً حنفي كما صرح به هو بنفسه في رسالة خطية، وسها مولانا عبد الحي رحمه الله تعالى حيث عده من الشافعية ومن مصنفات شيخه «كنز العمال» رتب فيه كتاب السيوطي رحمه الله تعالى «جمع الجوامع»- فأجابه‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلّم إنما قال‏:‏ لا تشرب الخمر، ولكن الشيطان لَبَّس عليك، والنوم وقت اختلال الحواس‏.‏ فإذا أمكن في اليقظة أن يسمعَ رجلٌ بخلاف ما قاله القائل لعلة في الخارج أو من جهته، ففي النوم أولى‏.‏ والدليل عليه أنك تشرب الخمر، فأقر به، وقال‏:‏ نعم إني أشرب الخمر‏.‏

وعندي أنه قال له‏:‏ اشرب الخمر تعريضاً على حاله القبيح، ويفهم هذا المعنى من لهجة المتكلم وكيفية تكلمه، فاللفظ الواحد قد يكون لمعناه، وقد يكون للتعريض‏.‏ ثم التعريض قد يكون قولياً وقد يكون فعلياً، يُعرف ذلك بالقرائن‏.‏ وقالت هذه الطائفة‏:‏ إن الحلية تُنبىء عن حال الرائي، فإن كان حاله حسناً يراه في حالة حسنة، وإلا ففي غير ذلك‏.‏ وفيه أيضاً حكاية أن رجلاً رآه صلى الله عليه وسلّم وعلى رأسه القَلنسوة الإنكليزية، فاستوحش منه، وكتب إلى مولانا الكنكوهي رحمه الله تعالى، فكتب إليه أنه إشارة إلى غلبة النصرانية على دينه‏.‏

ثم التحقيقُ أن رؤيتَه صلى الله عليه وسلّم لا تتعين في رؤيةِ عين الذات المباركة، فإن الأحوال في رؤية الشخص مختلفة، فربما نرى شخصاً من الأحياء ولا يكون له علمٌ برؤيتنا ولو كان في المنام عين ما في الخارج لكان عنده شعور بها، فالمرئيُ إذاً والله تعالى أعلم قد يكونُ صورةً مخلوقة لله تعالى على مِثال تلك الصورة، أي أنه تعالى يخلق حقيقة على مثال صورتِهِ وروحانيته أرانا إياها وأوقع في نفسنا مخاطبتها إياها، وقد تكونُ روحه المباركة بنفسها مع البدن المثالي‏.‏ ثم قد تكون يقظَةً أيضا كما أنها قد تكون مناماً‏.‏

ويمكن عندي رؤيته صلى الله عليه وسلّم يقظةً لمن رزقه الله سبحانه كما نقل عن السيوطي رحمه الله تعالى- وكان زاهداً متشدداً في الكلام على بعض معاصريه ممن له شأن- أنه رآه صلى الله عليه وسلّم اثنين وعشرين مرة وسأله عن أحاديث ثم صححها بعد تصحيحه صلى الله عليه وسلّم وكتب إليه الشاذلي يستشفع به ببعض حاجته إلى سلظان الوقت، وكان يوقِّره فأبى السيوطي رحمه الله تعالى أن يشفع له، وقال‏:‏ إني لا أفعلُ وذلك لأن فيه ضررُ نفسي وضررُ الأمة، لأني زرتُهُ صلى الله عليه وسلّم غير مرة ولا أعرفُ في نفسي أمراً غير أني لا أذهب إلى باب الملوك، فلو فعلتُ أمكن أن أحرم من زيارتِهِ المباركة‏.‏ فأنا أرضى بضررِك اليسير من ضررِ الأمة الكثير‏.‏

والشعراني رحمه الله تعالى أيضاً كتب أنه رآه صلى الله عليه وسلّم وقرأ عليه البخاري في ثمانية رفقة معه، ثم سمَّاهم وكان واحد منهم حنفياً وكتب الدعاء الذي قرأه عند ختمِه‏.‏ فالرؤية يقظة متحققة وإنكارُهَا جهلٌ‏.‏ ثم عند مسلم في لفظ آخر‏:‏ «فسيراني في اليقظة» ولعله حديث آخر ومضمون آخر يقتصر على حياته صلى الله عليه وسلّم وفيه تبشير بالصحابية لمن كان رآه في المنام، ولكن الراوي شك فيه وقال‏:‏ أو فكأنما رآني، فوقع التردد في أنهما حديثان أو واحد‏.‏ ونقل العيني رحمه الله تعالى فيه زيادة أخرى «فإني أرى في كل صورة» وهي تضرُ الطائفة الأولى فإنها تُشعر بالتعميم وأن لا تخصيصَ بحلية دون حلية‏.‏

أقول وظاهرُ حديث البخاري يؤيد الطائفة الأولى، سيما إذا كان من لفظه‏:‏ فإن الشيطان لا يتكونني، وحينئذٍ صرفُ هذه الزيادة عن ظاهرها أولى، فإنها لا توازي حديث البخاري‏.‏ وشرحُهَا عندي دفع استبعاد، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلّم إذا كان في المنام هو ولم يتمكن الشيطان من تمثله، فكيف تكون رؤيته في زمان واحدٍ لأشخاصٍ عديدة في أمكنة كذلك‏.‏ والجواب‏:‏ أنه ممكنٌ لأنه يُرى في كل صورة‏.‏ أما أن تلك صورة مثالية أو عينه صلى الله عليه وسلّم فهو تابعٌ لمنامه قد تكون كذا وقد تكون كذا‏.‏

ثم اعلم أن الأحاديث عامةٌ في الرؤيا تنبىء عن التقسيم الثنائي‏:‏ الرؤيا من الله، والحُلُم من الشيطان‏.‏ وشرحه العلماء بأن ظاهرَه إن كان خيراً فهو من الله، ويَسألُ عن تعبيره‏.‏ وإن كان مشوهاً فهو تحزينٌ من الشيطان ولا يَسأل عن تعبيره وأمره كما في الحديث‏.‏ وفي بعض الأحاديث التقسيم الثلاثي أيضاً‏:‏ تحديث النفس، وتخويفٌ من الشيطان، وبشرى من الله، وقد كنت مدةً طويلةً أظن أن حديث الباب يبنىء عن التقسيم الثنائي، فإذا انتفى الحُلم تعيَّنَ أن يكونَ من الله تعالى، وهذا معنى قوله‏:‏ «فقد رآني» أي رؤياه صحيحة وحق ومن الله لانتفاء مَدْخليَّة الشيطان منها، لأنه لا يمكنُ أن يتمثل به صلى الله عليه وسلّم

أما الحظورُ بالبالِ أنه رآه أو انتقاشُ صورتِهِ المباكرة بتكررِ الخيال، فهما خارجان عن مصداق الحديث، فلم يدخلا تحت الشرط، فكذا في الجزاء أيضاً وإن كانا واقعين في الخارج‏.‏ وبين الانتقاش والخطور فرق، فإن الرؤية في الأول متحققةٌ ولو كانت من أجل تصوره، ولا رؤية في الثاني غير الخطور بباله أنه رآه‏.‏ ثم تبين لي بعد مرور الزمان أنه ينبىء عن التقسيم الثلاثي‏.‏ والحديثُ لا يصرحُ إلا بانتفاء الحُلم فيه، فلا يمكنُ في رؤيته مَدْخليَّةُ الشيطان‏.‏ نعم، يمكن أن يكون على طريق تحديث النفس أيضاً وحينئذٍ معنى قوله‏:‏ «فقد رآني» أي تارة على طريق الرؤيا الإلهية، وأخرى على طور تحديث النفس، فبقي هذان الاحتمالان داخلين تحت مِصداق الحديث‏.‏ وعلى الشرح الأول لم يكن فيه ألا احتمالُ كونِها من الله، سواءٌ كان ذلك رؤية لشخصه أو مثاله‏.‏ والآن انفسحَ الأمرُ وأمكنَ أن يكونَ على طريق تحديث النفس أيضاً‏.‏

بقي الشق الرابع، وهو رؤيته على سبيل الخُطور، فهو خارجٌ عن قضيةِ الحديث مطلقاً، فإنها ليست برؤيته أصلاً، فلا يدخل تحت الشرطِ فكيف في الجزاء فإن قوله‏:‏ «فقد رآني» يُصدَّق فيمن تحققَ فيه الشرط، وهو قوله‏:‏ «من رآني في المنام» ورؤيته على سبيل الخطور ليست من الرؤية في شيء‏.‏ وهكذا أخرجه السبكي أيضاً‏.‏ وجملةُ الأمر أن ما بدا لي بعد مضي الدهر هو أن الحالَ في رؤيته صلى الله عليه وسلّم على ثلاثة أنحاء كما هو عندهم في الرؤيا العامة، وإن كنتُ أظن أولاً أنه على خلافها من كونه مبنياً على التقسيم الثنائي‏.‏

وبالجملة أن الرؤية قد تكونُ عنايةً من جهته صلى الله عليه وسلّم وتلك هي أعلاها، وقد تكون تلك على المثال دون الشخص بعينِهِ، وكلتاهما داخلتان في قضية الحديث أما الرؤية على طريق الخُطور بالبال، فقد أخرجه السبكي رحمه الله تعالى‏.‏

بقي تحديثُ النَّفْسِ فهو داخلٌ بعد كما ظهر آخراً‏.‏ وإنما اخترتُ هذا الشرحَ لأني رأيت الحالَ في الخارج كذلك، فلما أمكن شرحُ الألفاظ بما يطابق الخارج رأيته أولى‏.‏ وتفصيله‏:‏ أن القوةَ الخياليةَ بتكررِ الخيال، وممارستها قد تُحِدثُ في النفس صورةً، ولا يكون هذا إلا تصرفاً منها كما اشتهر في المثل في بلادنا‏:‏ أن الهرةَ لا ترى في نومها إلا لحماً، فإنها تحبُّه وتمارسه حتى لا تكاد تغيب عن ذهنها صورتُهُ، فتلك هي رؤياها في نومها كما هي في اليقظة، فكذلك حالُ من أُغرِمَ بحب النبي صلى الله عليه وسلّم وأكثر ذكره وطال فيه فِكرُه، ولم يزل مشغولاً به في اليقظة، فربما يصوِّر في نومه ما عَلِق به قلبه في اليقظة، فهذا أمرٌ ممكنٌ، بل واقعٌ ونوعُ بشارةٍ له أيضاً، فإن هذا الخيال وإن لم تكن له حقيقة لكنه مبارك‏.‏

والحاصل أن رؤياه صلى الله عليه وسلّم قد تكون كرامةً من الله تعالى، وهو بشرى المؤمن حقيقة، وقد تكون على طور تحديث النفس، فهذا أيضاً نوع بِشارة، وإن كانت ضعيفة ولذا يشتركُ فيها الصالح والطالح، ولو كان مع ذلك عناية من جانبه تعالى، فالأمر أعلى؛ وأما على طريق تحزين الشيطان فهذا أبعد وأبعد، نعم، يتحقق ذلك في الرؤيا العامة، هكذا حققه الشيخ المجدد السَّرهندي رحمه الله تعالى وأعلى درجته في عليين وبعدَه الشيخ ميرزا جان جانان الشهيد والشاه رفيع الدين رحمهما الله تعالى، فإنهم كلهم كانوا قائلين بالرؤية الخيالية أيضاً‏.‏ ولعَمري أنه مذهبٌ محكمٌ مطابقٌ بما في الواقع، والله تعالى أعلم‏.‏

باب‏:‏ كِتَابَةِ العِلم

واعلم أن الاهتمام في عهده صلى الله عليه وسلّم كان بجمعِ القرآن فقط، ولم تكن هممهم مصروفةً إلى جمع الأحاديث، بل كانوا يحفظونَها عن ظهرِ قلب، إما بالألفاظ بعينها إن أمكن، وإلا فبالمعنى مع إبقاء المراد على حاله‏.‏

ثم جَمَعَ أبو بكر الصديق مما تفرق من القرآن في مقام واحد، ثم أخذ عنه عمر رضي الله عنه نقولاً في زمان خلافته‏.‏ أما عثمان رضي الله عنه فكتب جميع ما كان قرأه جبرئيل على النبي صلى الله عليه وسلّم في العَرْضَةِ الأخيرة وأرسل نقوله إلى البلاد وما كانت عندهم من القراءات المختلفة أمر بحرقها لئلا يَشقَّ الناسُ عصاهم في أمر القرآن‏.‏ ثم إنه ثبت عنه النهيُ عن كتابة الحديث وثبت عنه الإجازة أيضاً لبعض أصحابه صلى الله عليه وسلّم فقد رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال‏:‏ إني لا أعلمُ أحداً أحفظُ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم مني غير عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فإنه كان يكتب ولا أكتب، فكان عبد الله بن عمرو بن العاص جمع أحاديثه صلى الله عليه وسلّم في كتاب وسمَّاه الصادقة‏.‏

وأخرج الطحاوي عن عمر رضي الله عنه أنه أراد أيضاً جمعَ الأحاديث واستخار إلى شهرٍ، فاستقر رأيهُ على أن لا يجمعها وقال‏:‏ إني سمعت قوماً نزلت عليهم الصحيفةُ فكتبوا حديثَ نبيِّهم وانهمكوا فيها، حتى غَفَلوا عن صحيفتهم فضاعت، فرأى أن لا يجمع‏.‏

ثم أول من صنف فيه من التابعين الزُّهْري، فجمع فيه السير والمغازي‏.‏ ثم صنف ابن جُرَيج في زمن عبد الملك‏.‏ وجمع مالك رحمه الله تعالى في «الموطأ» المرفوع مع الآثار‏.‏ ثم جرَّد أحمد رحمه الله تعالى المرفوع من الآثار مع عدم التميز بين الصحيح والسقيم، حتى ظهر البخاري وصنف «صحيح البخاري» مميِّزاً بين الصحيح وغيره‏.‏ حتى قيل في حقه‏:‏ إنه أصحُّ الكتبِ بعد كتاب الله تعالى، ثم صنف الناس كتباً تَتْرى على اختلافهم إلى أن بلغ الأمر كما ترى‏.‏ قلت‏:‏ وإن جَمْعَ الأحاديث في زمنه صلى الله عليه وسلّم وإن كان أحسنَ في بادىء الرأي، إلا أن المرضِيَّ عند ذلك كان أن لا تدونَ الأحاديثُ مثل تدوين القرآن، ولا تحفظُ حفظه، ولا تنتهي في الحتم نهايته، ولا تبلغُ في الاهتمام بألفاظها مبلغَه، ولا ينفي عنه الاختلاف والشبهات نفيها عنه، بل تبقي في مرتبة ثانوية يمشي فيها الاجتهادُ، وتفحصُ العلماء، وغور الفقهاء، وبحث المحدثين لينفسح عليهم أمر الدين، ويتوسع عليهم من كل جانب، وصدق حيث قال‏:‏ «إن الدين يُسر» ثم رأيت أثراً عن الزهري في كتاب «الأسماء والصفات» قسم فيه الوحيَ وقال‏:‏ إنه لا يُكتب منه إلا قسم واحدٌ، فعلمتُ أن انضباطَ نوعٍ دون نوع في زمنه صلى الله عليه وسلّم كانت هي المسألة، لا أن عدم كتابة الأحاديث كانت اتفاقاً فقط‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا يقتل مسلم بكافر‏)‏ وبظاهره أخَذَ الأئمة الثلاثة وقالوا‏:‏ إن المسلم لا يقتل بكافر حربياً كان أو ذِمياً‏.‏ وخالفهم أبو حنيفة رحمه الله تعالى في الذِّمي وقال‏:‏ إن المسلم يقتل بالذمي وإليه ذهب داود الظاهري وأبو بكر الضحاك في كتاب الديات، وأبو بكر هذا بعد البخاري بزمن قريب‏.‏

قلت‏:‏ والمستأمنُ أيضاً كذلك فيقتلُ بالمستأمن أيضاً، وإن كان بعض عبارات الفقه يُوهم بخلافه، لكنَّ المذهبَ ما قررنا‏.‏ واحتج الأئمة رحمهم الله تعالى بقوله‏:‏ «لا يقتل مسلم بكافر» ونقل الحافظ في «الفتح» أن زفرَ رحمه الله تعالى قيل له‏:‏ إنك تقولُ بقتل المسلم بالذمي مع أن الحدود مُندرئةٌ بالشبهات، وأي شبهةٍ أقوى من أن يقتصَّ من المسلمِ بالذمي مع قوله صلى الله عليه وسلّم «لا يقتل مسلم بكافر» فرجع عنه وقال‏:‏ أشهد أني رجعت عن هذه المسألة‏.‏ وأجاب عنه الطحاوي أن المرادَ من الكافرِ هو الحربيُّ دون الذمي، بقرينة قوله‏:‏ «ولا ذو عهد في عهد» وشرحه بأن المسلمَ لا يُقتل بكافرٍ ولا يقتلُ ذو عهدٍ في عهده بكافر أيضاً‏.‏ وحينئذٍ وجب أن يرادَ من الكافر الحربيُ فقط، ليستقيم التقابل بين ذي العهد والكافر‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ إن في الحديث قطعتين‏:‏ الأولى في حكم القِصاص، أي لا يقتصُ من المسلم بقتل كافر حربياً كان أو ذمياً‏.‏ وأما القطعة الثاني فلم تُذكر لحكم القصاص بل لحكمِ المعاهد، أي أنَّ القصاص وإن لم يجب لقتله، ولكن قتلُهُ حرامٌ، فلا يقتلُ ذو عهدٍ في عهده، كما في حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال‏:‏ «إلا من قَتَلَ نَفْسَاً مَعَاهِداً له ذِمَّة الله وذِمَّة رسُولِهِ، فقد أخفر ذمة الله فلا يُرَح رائحة الجنة‏.‏‏.‏ إلخ»، وهذا الحديث سِيق لبيان حِرمَةِ قتله، لا لأجل القِصاص‏.‏ فكذلك القِطعة الثانية في حديث الباب إنما سيق لبيانِ حرمةِ قتلهِ، وليست مرتبطة بما قبلها، وحينئذٍ يمكنُ أن يكونَ معنى الحديث‏:‏ أن المسلم لا يُقتلُ بحال بكافر، سواءٌ كان الكافر حربياً أو ذمياً‏.‏ أما ذو عهد فإنه لا يقتلُ أيضاً، لأنه حَرَامٌ قتله، فلم يتعين مرادُهُ فيما ذكره الطحاوي وبقي الأمر في التردد بعد‏.‏

وأجاب عنه الشيخ ابن الهُمَام أن الحديثَ إنما ورد في دماء الجاهلية وذهولها‏.‏ والمعنى أن مسلماً بعد إسلامه لا يقتلُ في قصاص كافرٍ قَتَلَه في الجاهلية، فدعاوي الجاهلية لا يرافع بها بعد الإسلام‏.‏ قلت‏:‏ وهذا لطيف جداً‏:‏ فإنه قطعة من خُطبة النبي صلى الله عليه وسلّم خَطَبها في فتح مكة‏.‏ وإعلانُ هذه المسألة هو الذي يناسبُ المحلَ والمقامَ‏.‏ وقد ورد عند البخاري حديث آخر عن ابن عباس، وشرحه العلماء بعين هذا، وفيه أنه قال‏:‏ «أبغض الناس عند الله ثلاثة‏:‏ مبتغ في الإسلام سنة لجاهلية، ومطالب دم امرىء بغير حق‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ»‏.‏ قال العلماء‏:‏ إنه في دماء الجاهلية فلا يُبعد أن يكونَ هذا الحديث أيضاً في دمائها كما ادَّعاه الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى‏.‏

والجواب عندي‏:‏ أنَّ حقنَ دمَ الذميِّ مستفادٌ من عهده بالمسلمين، حيث لم يعاهده إلا على حفظِ دمهِ ومالهِ‏.‏ وعند الترمذي‏:‏ أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا‏.‏ فالمعاهدة لا تقع إلا على حفظِ دمه وعِرضِهِ ومالِهِ‏.‏ فمن قتله من المسلمين فقد أَخْفَرَ ذمة المسلمين وافْتَاتَ عليهم، فيكون ناقضاً لذمتهم لأنهم ما عاهدوه إلا على أن دمَه يكون كدمهم، فلو لم يُقتل بقتلِهِ بَطَلَ معنى المُعاهدة فيُقتلُ لأجل معاهدتِهم إياه لا أصالة، فكأن قتل المسلم بالذمي من لوازِمِ عقد الذمة‏.‏

وحينئذٍ معنى الجملة الأولى‏:‏ «لا يقتل مسلم وذمي بكافر، وإنما أخرجنا لفظ الذمي في العبارة فقد بياناً لحكمه، لأنه بعد عقد الذمة دَخَلَ في أحكام المسلمين في الدنيا لا أنه مقدَّرٌ ليكون تأويلاً‏.‏ ومعنى القطعة الثانية كما ذكره الآخرون‏.‏ وبهذا الطريق حصل الجواب عن الحديث مع بقاء موافقتهم في الشرح‏.‏ ومن ههنا ظهر الجوابُ عما أُورِدَ على زفر رحمه الله تعالى فإن له أن يقول‏:‏ يقتل لِخَفْره ذمة المسلمين وإزالةِ عصمتِها لا أصالة‏.‏

ولي طريق آخر لم يسلكه أحدٌ، ويقتضي تمهيدَ مقدمة‏:‏ وهي أن بيت الله كان تحت ولاية جُرْهم الذين تزوَّج فيهم إسماعيل ثم بقي كذلك في ذريتهم إلى زمان ثم تحول إلى يد خُزاعة، وليسوا بقريش، فإن لَقَبَ قريش شرع من قُصَيّ‏.‏ واخُتِلف في خُزاعة أنهم كانوا مُضَرِيين أم لا‏؟‏ ثم لما صارت الولاية إلى قريش أخرجوا خزاعة ففروا إلى حوالي مكة وسكنُوا فيها، فعُلم منه أنه كانت عداوةٌ بين قريش وخُزَاعة من زمان طويل، فلما وقعَ صُلح الحُدَيْبِيَة دخل بنو خُزاعة في العهد مع النبي صلى الله عليه وسلّم وكان النبي صلى الله عليه وسلّم ارتضع فيهم ودخل بنو بكر أو بنو ليث- هكذا يشك الراوي- مع قريش‏.‏

ومضى عليه زمان حتى وقعت حربٌ بين بني خُزَاعة وبين بني بكر حليف قريش فأعانهم قريش على خلاف المُعَاهدة ونقضوها وقتلوا رجلاً من خزاعة، فجاء خزاعةُ وافدين إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وقد أخبره الله سبحانه عنهم قبل مجيئهم وكان يتوضأ وهو يقول‏:‏ «سأنصر خزاعة»‏.‏ فسألته عائشة رضي الله عنها ممن تكلم يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ يجيء وَفْدُ خزاعة فلما جاؤا وقَصُّوا عليه القِصة وعدهم بالنُّصْرِة، وغزا قريشاً مع عشرة آلاف من صحابته وحاربهم من الطلوع إلى الغروب، وهي الساعة التي أَحلت له صلى الله عليه وسلّم فلما فتحت مكة أعلن النبي صلى الله عليه وسلّم بالأمن وكان رجل من بني بكر- أو ليث- يجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ولا يدرى أنه كان يريد الإسلام أم لا‏؟‏ فقتلته خُزَاعة بقتيل لهم على بني بكر- أو ليث- كما كانت عادتُهم في الجاهلية، فأُخبرَ به النبي صلى الله عليه وسلّم فَرَكب راحلتَه مُغضَباً وخَطَبَ‏:‏ أن الله تعالى حبس عن مكة القَتْل أو الفيل»‏.‏ قال محمد، أي البخاري‏:‏ اجعلوه كذلك على الشك فإني سمعت من شيخي هكذا إلى أن قال‏:‏ «فمن قتل قتيلاً فهو بخير النظرين»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وكانت هذه واقعةٌ قَتَلَ مَسلمٌ ذمياً، لأن الرجل وإن لم يكن ذمياً لكنه كان في حكمهم، لأنه لما أمر بالكفِّ عن القتال وأمن الناس فدخل هذا الرجل أيضاً في أمنه، والنبي صلى الله عليه وسلّم ذَكَرَ فيه القصاصَ صراحةً، فإن النظرة الواحدةَ هي القصاصُ، فمورد الحديثِ يُقوي مذهبنا ويلزم عليهم أن يخصِّصوا النصَّ بما وراء المورد، فلا يكون له حكم في المورد‏.‏

وهذه المسألة اختلف فيها الأصوليون‏:‏ أنه هل يجوز إخراج مورد الحديث عن حكم النص أولاً‏؟‏ والظاهرُ أنه لا يجوز، فعليهم أن يخصُّوا النصَّ بما وراء المورد‏.‏ وإنما لم يقتص منه النبي صلى الله عليه وسلّم مع جَوَازِه لأنه أعذره، وكان الموضِعُ تسامحٍ وإغماض، لأن إعلان الأمن كان عن قريب، واحتملت المدة أن لا يشيعَ خبرُهُ ولا يصل إلى الأطراف أو يقال‏:‏ إنه عَفَى عنه، وهذا جائز بشرطِ عدم الخُصومة والمراضاة، كما في فقهنا‏:‏ أن المستحب للقاضي أن يدعوهم إلى الصلح أولاً كالتحكيم‏.‏ وفَعَلَه عمر رضي الله عنه في الحقوق المالية كثيراً‏.‏ وإنما أدى الدية من قِبَلَ نفسه إطفاءاً لنار الفتنة‏.‏

ثم عند الترمذي في كتاب الديات ما هو أصرح منه في شموله سبب الورود أيضاً‏.‏ عن أبي شُريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال‏:‏ «ثم إنكم معشر خُزَاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل، وإني عاقلته فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين الخيرتين‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ» فهذا يدل على أنه كان ينبغي أن يقتصَّ منه إلا أنه أغمض عنه لمصلحةٍ رآها‏.‏ ثم إن الحافظ نقل رواية عن الواقدي واستدل منه لمذهبه، إلا أنه لم يُسمِّه، فقلت‏:‏ سبحان الله، وهل يُستدل بمثل الواقدي في أحكام الفقه‏؟‏ ولو فعله حنفيٌ لبقي عليه عارهُ أبدَ الدهر‏.‏

وتحصل من المجموع أربعة أجوبة‏:‏

الأول‏:‏ أن المراد من الكافر هو الحربي دون الذمي، بقرينة مقابلته بالذمي‏.‏

والثاني‏:‏ أن الحديث في وضع دماء الجاهلية‏.‏

والثالث‏:‏ أن الذمي في حكمِ المسلم في النفس فقط والمال بنص الحديث وبالعهد فيدخل في المسلم بهذا الاعتبار‏.‏

والرابع‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلّم أعلنَ في خُطبته بالقِصاص بين المسلم والذمي، فاعلمه‏.‏

112- ‏(‏قوله‏:‏ ولا تحل لأحد بعدي‏)‏ وهذا تكوينٌ ولا يخالفُ تسلط الكفارِ على مكة في زمان، لما في «الجامع الصغير»‏:‏ أن مكةَ لا يُحِلها أحد حتى يُحلِها أهلها‏.‏

112- قوله‏:‏ ‏(‏ولا تلتقط‏)‏ وإنما عَدَلَ إلى المجهول لكونِهِ أبلغَ من المعروف ههنا، لدَلالته على انتفاء الفعل رأساً‏.‏ وهو حكم لُقطَةِ الحرم عند الشافعي رحمه الله تعالى، أي من التقطها يجبُ عليه التعريف دائماً لقوله‏:‏ «إلا لمنشد»‏.‏ وعندنا حكمُها حكمُ سائر اللقطات‏.‏ وإنما خصَّها بالذكر للاعتناء بشأنها، لأنه يمكن أن يفهمَ ناظرٌ عدم الإنشاد فيها، فإنه محل مجتمعُ فيه الناس من كل فجٍ عميقٍ، فلعله لا يظهر فيه للإنشاد كثيرُ فائدة لرجوع الناس إلى أوطانهم‏.‏ فقال إن فيها الإنشاد أيضاً‏.‏

112- قوله‏:‏ ‏(‏فمن قُتِل‏)‏ يعني أن المسألةَ بعد اليوم تكونُ كذلك، كما هو صريح عند الترمذي وقد مر وإنما سامح في هذه الواقعة لما مر من قبل‏.‏

112- قوله‏:‏ ‏(‏إما أن يقاد من أقاد‏)‏ بمعنى قصاص دلوانا ويقاد يعنى قصاص دلوائى جائين وبظاهره أخذ الشافعي رحمه الله تعالى‏.‏ وموجِبُ القتلُ عنده على التخيير‏:‏ إما القصاص، وإما الدِّية‏.‏ وعندنا‏:‏ موجبُ العمد هو القصاص فقط‏.‏ وإنما يُرجع إلى الدِّية بالمراضاة، فلو عفا الأولياء عن القِصاص أو سكتوا ثم طالبوا الدِّية بعد بُرهة ليس لهم شيء، وإنما عليهم ذِكْرُ مالِ الصلح في المجلس‏.‏

قلت‏:‏ والحديثُ صادقٌ على مذهبنا أيضاً فإنه جاز له أن يقتصَّ منه وأن يأخذ الدِّية عندنا أيضاً، وإنما لم يذكر رضا القاتل لأن رضا القاتل ببذل المال عن نفسه أمر بديهي والعسر إن كان ففي رضا أولياء المقتول على الدية فإنهم يأخذون المال بدل النفس‏.‏ ومعلوم أنَّ النَّفْسَ أعز‏.‏ ولذا لم يذكر شرط الرضا في القاتل، وإنما لا أدخل في هذا الباب لأنه من باب التفقه‏.‏ ثم الحافظ العيني رحمه الله تعالى أطال الكلامَ ههنا وقال‏:‏ إنه ليس فيه تخيير للأولياء، بل فيه تعريضٌ لهم بالأخذ بالأحسنِ والأصلح، ومراده أن خذوا بما كان أحسنَ وأصلح أما إنه خيرهم مستقلاً أو برضا القاتل‏؟‏ فإنه أمرٌ بمعزلٍ عن الحديث‏.‏ وراجع كلامه إن شئت‏.‏

112- قوله‏:‏ ‏(‏إلا الإذخر‏)‏ وهو نوع من النبات مرجياكند وفي الفنجابى كترن بالنصب على الاستثناء‏.‏ وعند ابن مالك يجوز الرفع أيضاً، وتقديره إلا الإذخر فإنه مُستثنى، وحينئذٍ المستثنى جملة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً ؛ إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ‏}‏ ‏(‏الجن‏:‏ 26، 27‏)‏ وبه يندفع الإشكال عن الآية‏.‏ وقد مر الكلام عليها‏.‏ ولعل إجازته واستثناؤه بالوحي‏.‏

وليعلم أن تلكَ الصحيفة كانت عند أبي بكر رضي الله عنه، ثم عند عمر رضي الله عنه كما عند الترمذي في الزكاة وكانت في قِرَاب السيف، وكانت فيها أحكام الزكاة كما في البخاري أيضاً‏.‏ وفي «مصنف ابن أبي شيبة» بإسناد جيد، يدل على أنها كانت فيها مسائل الزكاة على وفق مذهب الحنفية، إلا أن الحافظ لما جمعَ أحكام تلك الصحيفة أغمضَ عن تلك المسائل ولم يلتفت إليها، فعفى الله عنه حيث أخفى شيئاً كان فيه منفعةٌ للحنفية‏.‏ ثم هذا من دأبي القديم أني إذا أجدُ أمراً في البخاري ولو كان مُجملاً، ثم أجد تفصيلُهُ في غيره أضيفُ ذلك التفصيلَ إليه، وعلى هذا ادَّعى أن مذهبَ الحنفية في باب زكاة الإبل ثابتٌ من البخاري‏.‏

114- قوله‏:‏ ‏(‏فخرج‏)‏ ولعل خروجه فيما بعد، لا عند واقعة القُرِطاس، لأن ابن عباس لم يكن هناك كما عند البخاري في موضع آخر، كأن يقول ابن عباس رضي الله عنه‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وهو الصواب فالمرادُ من الخروج ههنا خروجُه إلى تلامذته، وهذا وإن كان خلافَ الظاهر لكنه يجبُ المصيرُ إليه‏.‏

باب‏:‏ العِلمِ وَالعِظَةِ بِاللَّيل

العِظة‏:‏ التذكير للغير‏.‏ والعلم‏:‏ التذكير لنفسه‏.‏ والمصنف رحمه الله تعالى يُشير إلى قوله صلى الله عليه وسلّم «لا سمر بعد العشاء‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ» ويقول‏:‏ إن العلم والعظة ليس من السمر، فيجوز‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صدفة‏)‏ هو محدث متشدد في حق الحنفية، وراجع له نيل الفرقدين‏.‏

115- قوله‏:‏ ‏(‏ذات ليلة‏)‏ قال الرضي‏:‏ إن كلمة ذات مؤنث ذو، وتكون صفةً لموصوف محذوف، أي مدة ذات ليلة‏.‏ وقال العيني رحمه الله تعالى‏:‏ إنها مقحمة زعماً منه أنها بمعنى الحقيقة‏.‏ قلت‏:‏ وما اختاره الرضي أقرب، فإنه في هذا الباب أحذق‏.‏

115- قوله‏:‏ ‏(‏ماذا أنزل‏)‏ وهذا من باب تجسد المعاني، ثم ما رآه النبي صلى الله عليه وسلّم فهو أيضاً نحو من الوجود كالتقدير، فعلى هذا ما يقدر في ليلة البراءة هو أيضاً نحو من الوجود‏.‏ وقد مر سابقاً أن للوجود أنحاءً من الجسماني، والرُّوحاني، والمِثالي، والعلمي، والذر، والتقديري كلها وجودات لشيءٍ واحد‏.‏ وكذا كل وجود عالم برأسه، فهذه سبع وجودات وسبع عوالم، وهو الله سبحانه رب العالمين‏.‏ وسيجيء تحقيقُ عالمِ الذر بما لم يقرعُ سمعك إن شاء الله تعالى‏.‏ وبه ينحلُ حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه‏:‏ «أن الله خلق سبع أرضين» إلخ وقد أشكل على الناس‏.‏ وألف مولانا محمد قاسم النانوتوي فيه رسالة مستقلة‏.‏ والوجه عندي‏:‏ أن الحديث تعرَّض إلى أنحاء وجُودات الشيء، فالشيء واحدٌ وهو متعددٌ بتعدُدِ الوجُودات، لا أنها أشخاصٌ متعددة وأشياء كثيرة فافهم، وستنفعك هذه الإشارة إن شاء الله تعالى‏.‏

115- قوله‏:‏ ‏(‏صواحب الحجر‏)‏ جمع حُجْرة، ثم إن كانت مُسَقَّفةً فهي بيت، وإلا فحجرة‏.‏ وصرح السَّمْهُودي في «الوفا» أن لكل من أزواجه صلى الله عليه وسلّم كانت حجرة وبيتاً‏.‏

115- قوله‏:‏ ‏(‏رب كاسية عارية‏)‏ بفقدان العمل ولباسِ التقوى ذلك خير، وهي إن كانت مرفوعة فهي جواب رُبَّ، وإن كانت مجرورةً فجوابه محذوف‏.‏

باب‏:‏ السَّمَرِ فِي العِلم

وإطلاق السمر في العلم كإطلاق التغني في القرآن، وإلا فالسمر لا يكون إلا في غير العلم كالقصص والحكايات‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلّم «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» وألطفُ شروحِهِ ما ذكره ابن العربي‏:‏ أن مراده وضعُ القرآن موضعَ الغناء واختياره مكانه، فإن الغناءَ ألذُ عند عامة الناسِ، والمطلوب تركه، فإذا تركه لا بد أن يضعَ مكانه شيئاً آخر يتلذذُ به، فعلى المؤمن الخاشع أن يجعلَ القرآنَ مقامَه ويتنزه قلبه به، ويتركَ ما لا يعنيه، ويشتغل بما يعنيه‏.‏ ومن لم يفعل كذلك واشتغل باللهو والغناء وأضاعَ فيه وقته وجعلَ القرآن خلفَ ظهره، فإنه ليس منه صلى الله عليه وسلّم وليس على طريقه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أرأيتكم‏)‏ قال النُّحاة‏:‏ ضميرُ المنفصلِ فيه تأكيدٌ للمتصل‏.‏ ومعناه‏:‏ أرأيتم ومحصلُه أخبرني على حد قول سعدى في بوستان‏.‏

دو لشكر بهم برزدنذا زكمين *** توكفتى زدند آسمان برزمين

يعني‏:‏ لو كنتُ هناك لقلتُ هذا وكذلك معناه، لو كنت فرأيت فأخبرت‏.‏

116- قوله‏:‏ ‏(‏لا يبقى‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وقد وقعَ في شرحه أغلاطٌ‏.‏ ومعناه‏:‏ أن كل من كان موجوداً في وقت تكلمه على وجه الأرض فإنه لا يتجاوزُ عن هذه المدة، فالذين وُلدُوا بعد هذه، لم يدخلوا تحت هذه المقُولة، وكذا لا حكمَ فيه بأن عمرَ أمته لا يزيد عليه‏.‏ ومن ههنا قال المحدثون‏:‏ إن دعوى الصُّحْبة بعد تلك المدة باطلة كما ادَّعى باباً رَتَن في بهتندا وردَّ عليه الذهبي فأخطأ في اسمه فكتبه «بطرند»‏.‏ وتصحيح اسم لسان من عالمِ لسان آخر أمرٌ عسير‏.‏ وآخرهم وفاةً في مكة إنما هو عامر أبو طفيل، وفي المدينة جابر رضي الله عنه، وأنهما ماتا في تلك المئة كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلّم

ثم تكلم في الخضر أنه حي الآن أو مات هو أيضاً‏؟‏ ونسب إلى البخاري أنه ليس بحيِّ‏.‏ وعند عامتهم هو حيّ‏.‏ وأحسن ما يستدل به على حياته ما في «الإصابة» بإسناد جيد أنّه خرج عمر بن عبد العزيز مرة من المسجد ومشى مع رجل يتكلم معه فلم يعرفه الناس، فسألوه عنه فقال‏:‏ إنه كان خَضِراً‏.‏ والعرفاء أيضاً ذهبوا إلى حياته إلا أنهم قالوا‏:‏ بالبدن المثالي كما صرح به بحر العلوم‏.‏ ثم قيل في وجه الجواب‏:‏ أنه يمكن أن يكون على وجه البحر إذ ذاك لا على وجه الأرض، فلا يدخل في قضية الحديث‏.‏

وعندي هو مخصوصٌ، فإن العموم على التحقيق ظني‏.‏ ثم هو من رجال الأمم السابقة وغائب عن الأبصار، فلا بُعدَ في أن لا يشمَلَه الكلام ويبقى خارجاً عنه‏.‏ ومن زوال كلام البلغاء لا يراها تأويلاً، بل هو الطريق المسلوك في العبارات‏.‏

117- قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن عباس‏)‏ إنما سنه عباس ليرى صلاةَ ليله صلى الله عليه وسلّم ولاستيفاء دينه منه، لما كانت جرت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلّم معاملة للدين، فكان يستقرض منه ويصرفه في مصارف الزكاة، ثم يؤديه إذا جاء عنده من مال الزكاة‏.‏ واعلم أنه اخُتلف في عدد ركعات صلاة ليله صلى الله عليه وسلّم تلك، فقيل إنها إحدى عشرة وقيل ثلاث عشرة، ولم يترجح واحد منهما‏.‏

117- قوله‏:‏ ‏(‏فصلى أربع ركعات‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏)‏ وفهم الحافظ أنها قطعة من صلاة ليله صلى الله عليه وسلّم والركعتان الأخيرتان كانتا سنة الفجر‏.‏ وعندي هي سنهُ بعدِية للعشاء‏.‏ وصرح الشيخ ابن الهُمام رحمه الله تعالى بأن المؤكَّدة وإن كانت هي الركعتان، إلا أن الأربع أيضاً مأثور بعد العشاء‏.‏ وعند أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قال‏:‏ سألت عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت‏:‏ ما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد العشاء إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات‏.‏

والتحقيق عندي‏:‏ أن الراوي جمع فيه قِطعتين من صلاته صلى الله عليه وسلّم فذكر السنة البعدية وخَمْسَاً من صلاة الليل، وحذف منها الباقي كما هو مصرح عند أبي داود عن سعيد بن جبير‏.‏ فجاء فصلى أربعاً ثم نام، فهذه هي السنة البعدية، ثم قام يصلي‏.‏‏.‏‏.‏ فصلى خمساً‏.‏ وعند أبي داود‏:‏ فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثماني ركعات، ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، فصارت تلك إحدى عشرة ركعة صلى ثمانية منها في سلسلة وخمسة في سلسلة أخرى‏.‏ فاقتصر الراوي على إحدى السلسلتين وترك الأخرى‏.‏

أماالاستدلال بقوله‏:‏ أوتر بخمس‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ على خلاف وِتْرية الثلاث فليس بناهض، بل يُبنى على خفاءِ حقيقة صلاته صلى الله عليه وسلّم في تلك الليلة‏.‏ فاعلم أن صلاته صلى الله عليه وسلّم في تلك الليلة على ما يظهر من الروايات كانت هكذا‏:‏ أربع ركعات، وثمان ركعات، وخمس ركعات، وركعتين‏.‏ والأرجح عندي في الأربع أنها كانت سنة بعد العشاء كما مر، فمجموع صلاة ليله‏:‏ ثلاثة عشر، والركعتان سنة الفجر‏.‏ فصلى ثماني منها في سلسلة، وخمساً أخرى في سلسلة، يعني صلى ثماني ركعات، ركعتين ركعتين ولم يجلس بينهما للاستراحة، فصارت تلك سلسلة واحدة ثم جلس‏.‏ وليست هذه الجلسة إلا جلسة الاستراحة، لا ما تكون في خلال الصلاة، ثم أتمها بخمسة أخرى، فصلى ركعتين من صلاة الليل وثلاثاً للوتر في سلسلة واحدة، ثم جلس جلوس الفراغ، ثم ركع ركعتي الفجر‏.‏

وإذا كانت صلاته في تلك الليلة هكذا، سرى فيه تفنن العبارات‏.‏ فذكر بعضهم السنَّة بعد العشاء، وحذف ثمان ركعات من صلاة ليله، ثم ذكر ركعات الوتر مع قِطعةٍ من صلاة ليله، ثم ذكر ركعتي الفجر كما هو عند أبي داود عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال‏:‏ بتُ في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث فصلى النبي صلى الله عليه وسلّم العشاء، ثم جاء فصلى أربعاً ثم نام- وهذا قريب من الصريح في أنها كانت سنة بعد العشاء، لأنه صلاها قبل النوم وبعد العشاء- ثم قام يُصلي فقمت عن يساره، فأدارني فأقامني عن يمينه، فصلى خمساً ثم نام- وهذه الخمسة من صلاة ليله، وسقط عنه ذكر الثمانية ههنا- ثم قام فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الغَدَاة‏.‏

وهذا صريح في أن الركعتين كانتا سنة الفجر، لأنه فَصَلهما عن الخمس وذكرهما عند الخروج إلى الفرض‏.‏

والدليل على أن ذكر الثمانية سقط من الراوي ما عنده عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس من طريق آخر‏:‏ أنه قال‏:‏ قام فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثماني ركعات، ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن- وبقي في هذا الطريق ذكر ثنتي الفجر- وأيضاً عنده في تلك القصة أنه صلى ركعتين خفيفتين ثم سلم، ثم صلى حتى صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر ثم نام- فذكر فيه مجموع عدد صلاة الليل بدون الفصل بين الثمانية والخمس‏.‏ وقد علمت حال الاختلاف في بيان العدد المجموع بين إحدى عشرة وثلاث عشرة- فأتاه بلال فقال‏:‏ الصلاة يا رسول الله، فقام فركع ركعتين ثم صلى للناس، وهذا أصرح في أنهما كانتا سنة الفجر لا غير- فيذكر الراوي تارة صلاته قِطعةً قِطعةً لأنها كانت في الخارج كذلك، وتارة يُعطى العدد المجموع لداعية له، وأخرى قد يتعرض إلى ركعتي الفجر وقد يحذفها‏.‏ وإذا تبينتَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم صلى الثمانية في سلسلةٍ وفصل بين هذه القِطعة وقطعة أخرى بعدها لم يبعدُ حذفها من العبارة أَيضاً‏.‏ ثم إذا لم يحصل له الفراغ عن صلاة ليله إلا بعد الخمس، تعرض إلى بيانه وقال‏:‏ أوتر بخمس ثم فرغ عن صلاته، يعني تمت صلاته على هذا العدد ولم يتجاوزه‏.‏

وعبر عنه بقوله‏:‏ لم يجلس بينهن، أي جلوس الفراغ، لأنه كان بصدد حكاية ما رأى من كيفية صلاته صلى الله عليه وسلّم ولم يره جالساً جلوس الفارغ إلا بعد الخمس، فرواه كما رأى، وليس هو بصدد بيان ركعات الوتر فقط أو الجلسات بينهما، وإنما أراد أن يحكيَ عن صورة صِلاته في تلك الليلة‏.‏ وكان ذهب لذلك فكأنه أراد التصوير على اصطلاح علماء المعاني، ولم يكن منه بدٌ أن يذكرَ تلك القطعات كذلك‏.‏ إلا أن بعض الرواةِ لما ذكرها إجمالاً ذكر العدد المجموع فقط، وبعضهم زاد ونقص حسب ما سنح لهم عند روايتهم‏.‏

ثم إن الدليل على أن الوترَ من تلك الخمس كانت هي الثلاث‏:‏ ما أخرجه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه في تلك القِصة بعينها وفيه‏:‏ ثم فعل ذلك ثلاث مراتٍ ستَّ ركعات، كل ذلك يَستاكُ ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث‏.‏

وأشار الحافظ رحمه الله تعالى إلى تفرُّدٍ فيه‏.‏ قلت‏:‏ لا تفردَ فيه، بل له متابعاتٌ شتى أخرجها الطحاوي عن قيس بن سليمان، عن كريب مولى ابن عباس‏:‏ أن عبد الله بن عباس حدثه‏.‏‏.‏‏.‏ ثم أوتر بثلاث، وفيه غَلطٌ من الكاتب إنما هو‏:‏ مَخْرَمة بن سليمان عن أبي إسحاق، عن المنهال بن عمرو، عن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وفيه‏:‏ حتى صلى ست ركعات وأوتر بثلاث‏.‏ وعنه عند النسائي عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس رضي الله عنه قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوتر بثلاث‏.‏ وهو عند الطحاوي أيضاً‏.‏

فتحصل من هذه المتابعات أن وتر النبي صلى الله عليه وسلّم في تلك الليلة كانت هي الثلاث‏.‏ وإنما ذكر معه الركعتين من صلاة الليل لأنهما كانتا صُليتا معه في سلسلة كما علمت‏.‏ وستعلم إن شاء الله تعالى أن المطلوبَ في نظر الشارع أن يصلي الوتر مع شيء من صلاة الليل، وهو معنى قوله‏:‏ «لا توتروا بثلاث، أوتروا بخمس أو سبع‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ» فمعنى النهي عن الإيتار بالثلاث إفرازها عن صلاة الليل، والإيتار بها بدون أن يكون شيء قبلها‏.‏ أما إذا كان قبلها ركعتان أو أربع ركعات، فقد خَرَجَ عن معنى النهي، لأن الوتر لما كانت لإيتار صلاة الليل، ناسب أن تكون قِطعة من صلاة الليل معها، ليظهر معنى الإيتار، وستعرف إن شاء الله تعالى‏.‏

وقال مولانا شيخ الهند محمود حسن رحمه الله تعالى‏:‏ الركعتان مع الوتر ليستا قِطعة من صلاة الليل، بل هما اللتان تصليان بعد الوتر قاعداً‏.‏ وقد كان رحمه الله تعالى يُجري هذا الجواب في حديث عروة أيضاً‏.‏ قلت‏:‏ أم الأحاديث في الركعتين بعد الوتر فقد بلغت إلى الأربع وكلها صحاح، إلا أني لم أختر هذا التوجيه، لأن مالكاً رحمه الله تعالى أنكرهما ولم يخرج لهما في «موطئه» شيئاً، ورآه وهَمَاً مخالفاً لقوله صلى الله عليه وسلّم «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً» فإنه صريح في أن الوتر ينبغي أن يكون في آخر صلاة الليل، وحينئذٍ لو سُلِّم ثبوت الركعتين بعده لزم أن يكون الآخر هما هاتان، وتفوت آخرية الوتر‏.‏ والبخاري رحمه الله تعالى وإن أخرجهما في كتابه إلا أنه لم يبوب على هذا اللفظ‏.‏

وقد تحقق عندي‏:‏ أن البخاري رحمه الله تعالى إذا يخرج لفظاً ويكون فيه ضعف عنده لا يُترجم عليها، فهذا أيضاً دليلٌ على ضعف في المسألة عنده‏.‏ ثم إن السلف أيضاً كانوا مختلفين فيها، فحملها على هاتين الركعتين، وإن كان ممكناً في حديث ابن عباس رضي الله عنه، إلا أني تركته لما علمت آنفاً‏.‏ أما في حديث عُروة فحملُها على هاتين الركعتين مُشكلٌ، فإن عروةَ ممن ينكرهما رأساً كما هو في «قيام الليل» للمروزي، فهاتان غير ما في حديث عروة قطعاً‏.‏ إن أمكن حملهما عليهما في غير حديثه، إلا أني لمّا لم أحملُهما في حديث عروة على الركعتين بعد الوتر لما علمت، وجعلتهما من صلاة الليل‏.‏ لهذا المعنى أحببتُ أن تكون شاكلةُ الجواب في كلها واحدة، وإن أمكن الحملُ عليهما في حديث ابن عباس رضي الله عنه‏.‏

أما المسألة في هاتين الركعتين فإنهما جائزتان عندي، غير أنهما تصليان قاعداً‏.‏ وقد اتضحت لي حكمةُ القعود أيضاً، وهي‏:‏ إبقاء آخرية الوتر ولو بوجه، فإنها وإن فاتت صورةً ناسب أن لا تفوت معنى أيضاً، فحرفهما عن شاكلة الصلاة التي صليت قبلهما، لتصير صلاة متميزةً مستقلةً ممتازةً عما قبلها ويبقى الوتر آخراً فيما جعل لها آخراً، وهي صلاة الليل‏.‏ وأما الركعتان بعدها فكأنها صلاة أخرى لم يقصد تأخير الوتر عنها‏.‏ ولما كان القعودُ فيها لتغيير الشكلة وإبقاء آخرية الوتر، كان قصدياً فلو صلاهما قائماً يفوت المعنى‏.‏ والله تعالى أعلم بالصواب‏.‏

117- قوله‏:‏ ‏(‏نام الغليم‏)‏ قيل‏:‏ وهو موضع الترجمة‏.‏ قال الحافظ رحمه الله تعالى‏:‏ بل هو مذكور في طريق آخر عنده في كتاب التفسير، وفيه‏:‏ فتحدث مع أهله ساعة‏.‏ قلت‏:‏ وهو الصحيح، وهذا هو السمر الذي أراده‏.‏

باب‏:‏ حِفظِ العِلم

119- ‏(‏فما نسيتُ بعد‏)‏ والظاهر عندي عدم نِسيانه جميع ما سمعه في عمره، لا أنه يقتصرُ على هذا المجلس فقط‏.‏ والعلم الآخر إنما لم يبثه أبو هريرة رضي الله عنه لأنه كان يتعلق بالفتنِ وأسماء أمراء الجَور، كما نقل في «حاشية الصحيح» للشيخ أحمد علي رحمه الله تعالى فراجعه‏.‏ ثم إن هذه الأمة إنما ابتُليت بالفتن لأنها رُفعَ عنها عذاب الاستئصال‏.‏ وعليهم تقوم الساعة، فابتليت بالفتن للتمحيص‏.‏

باب‏:‏ الإِنْصَاتِ لِلعُلَمَاء

وقد مر أن الإنصات صموت للاستماع‏.‏ ومعناه توجيه الحواسِّ نحو المتكلم لما يُلقى إليه منه‏.‏ وفي كتب غريب الحديث‏:‏ أنه بمعنى سكتَ سكوتَ مُستمع، فقيل‏:‏ إنه تقييد، وقيل‏:‏ تشبيه فقط‏.‏ والأول يفيدنا في مسألة القراءة خلف الإمام، وإن كان الثاني فلا يفيدنا، فإن معناه حينئذٍ أن يكون حالهُ مشابهاً لحالِ المستمعِ وإن لم يكن مُستمعاً حقيقة‏.‏ وقد مر مني أن الآية تقتصر على الجهرية فقط، فلا تقوم حجةً عليهم في حق السرية‏.‏

121- قوله‏:‏ ‏(‏رقاب بعض‏)‏ مفعولٌ مطلق، أو حالٌ للتشبيه‏.‏

باب‏:‏ مَا يُسْتَحَبُّ لِلعَالِمِ إِذَا سُئِلَ‏:‏ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ‏؟‏ فَيَكِلُ العِلمَ إِلَى اللَّه

وقد مر أن الاختلافَ فيه إنما كان لأن هذه القِصة لم تكن في التوراة، لأنها عَرَضت في التِّيه، وكانت التوراة نزلت قبل ذلك‏.‏

122- قوله‏:‏ ‏(‏ليس موسى بني إسرائيل‏)‏ وهذا اختلافٌ آخر‏.‏ وقد مر التنبيه على تعدد الاختلاف فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هو أعلم منك‏)‏ مناقشةٌ لفظيةٌ لتركِهِ الأليق بشأنه، فإن الأدب في مثل هذه المواضع أن يُوْكل العلم إلى الله سبحانه ولا يحكمُ من عند نفسه بشيء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان لموسى وفتاه عجباً‏)‏ وإنما تعجَّب فتاه إذ ذاك لأنه كان مستيقظاً ناظراً إلى عجائب قُدرته تعالى من حياته واتخاذه في الماء سرباً‏.‏ أما موسى عليه السلام فكان نائماً وإنما تعجَّب بعد ما استيقظ وعِلم قِصة الحوت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نصباً‏)‏ وإنما ألقي عليه النصب تكويناً، مع الأمر بالانطلاق تشريعاً، فكان مأموراً بالانطلاق ومع ذلك يُلقى عليه النَّصبُ من جهة التكوين، فعلم‏:‏ أنهما بابان قد يتحدان وقد يتخالفان، فلا يوافقُ التشريعَ التكوين، ولا التكوينُ التشريع دائماً، والنجاةُ في اتباع التشريع دون التكوين كائناً ما كان، وكذلك ألقي عليه النِسيان تكويناً فلا بُعد في نِسيانه مرة بعد مرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قصصاً‏)‏ بير ديكهتى هوئى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مُسجى‏)‏ وفي طريقه على متن البحر مضطجعاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنى بأرضك السلام‏)‏ ولعله رد عليه السلام، ثم قال ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خضر‏)‏ نبي عند الجمهور، وليس داخلاً تحت شريعة موسى عليه السلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنت على علم‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏)‏ ولذا قلت‏:‏ إن الأعلم في قول موسى عليه السلام كان على العرف، فعند هذا طرفٌ من العلم وعند هذا طرف، والبعض مشتركٌ وإنما الفضل لموسى عليه السلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجاءت عصفورة‏)‏ وهو أيضاً تكوينٌ ليضرب له مثلاً‏.‏ وعلم منه عقيدة النبيين في علم الله تعالى وأنه لا يُوازى بعلم الله شيء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أقل لك‏)‏ كلمة لك لمزيد التأكيد‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وكنت في سفر فقلت لأعرابي وهذا الشغدف، فقال‏:‏ نعم هذا شغنداف، كما يقال في الهندية روتى بك كئى‏؟‏ جواب دياجائى كه روتى بلكه روت ثم الزمخشري يمر على مواضع من القرآن وربما يقول‏:‏ إنه لمزيد التصوير، كما يقال‏:‏ سمعت بأذني ورأيت بعيني ومراده في الهندية‏:‏ فوتؤاتارنا على حد قول الشاعر‏:‏

وعينان قال اللَّهُ كونا فكانتا *** فعولان بالألباب ما تفعل الخمر

فقوله‏:‏ «كونا» ههنا ألطف ما يكون، يعجِزُ عن إدراكه المعقولي، فإنه يقول‏:‏ إن كل شيء بتكوين من الله تعالى، فلا وجه لتخصيص العينين‏.‏ وسئل الشيخ صلاح الدين الصفدي السُّبكي عن قوله‏:‏ إن واستطعماها، أوجز من قوله‏:‏ ‏{‏اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا‏}‏ ‏(‏الكهف‏:‏ 77‏)‏ فأجاب عنه السبكي وبيَّن الفرقَ بينهما ونكتة هذا التطويل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يريد أن ينقض‏)‏ نسبَ فيه الفعلَ إلى الجماد، وهو مليحٌ جداً عن البُلغاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لو صبر‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏)‏ انكشف فيه عقيدة خاتم الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام في حق علمِهِ أيضاً‏.‏

122- قوله‏:‏ ‏(‏أقتلت‏)‏ وقد روي في التفاسير أن خَضِراً عليه الصَّلاة والسَّلام نَزَعَ اللحم عن كتفِهِ وأراه، فإذا فيه طبع يوم طبع‏:‏ كافراً، وهذا لا يخالف حديث الفِطرة وسيجيء في موضعه تحقيقه‏.‏

باب‏:‏ مَنْ سَأَلَ وَهُوَ قَائِمٌ عالِماً جالِسا

أي أن السائلَ قائمٌ والمسؤول عنه جالس، فهذا مجلسٌ سَطحي ليس فيه اهتمام بالفقه‏.‏ فهل يجوز السؤال في مثل هذا الحال‏؟‏ أو يقال‏:‏ إنه كان عنده حديث في هذا المضمون، فأراد أن لايتركه خالياً عن الترجمة ويستفيدَ منه مَسْألة‏.‏ وقد نُقل عن مالك ما يدلُ على أنه كان يكرهُ ذلك، فإنه مر على شيخ يحدث قوماً، فلم ير في المجلس فُسحةً فلم يقف، وذهب إلى وجهه ولم يجلس فيه، وقال‏:‏ كرهت أن أُسمِعَ الأحاديث وإني قائم‏.‏ وكان إذا حدَّث حدث بالوقَار والتؤَدة‏.‏

123- قوله‏:‏ ‏(‏فرفع رأسه‏)‏ لأنه كان جالساً وكان السائل قائماً‏.‏

123- قوله‏:‏ ‏(‏فقال‏)‏ لم يتعرض إلى استقصاءِ الأقسامِ واستيفاءِ الوجوه، بل عَدَلَ إلى مراده‏.‏

123- قوله‏:‏ ‏(‏فإن أحدنا‏)‏ والفاء ليست للتعليل على طريقَ المعقوليين بل لمجرد التناسب‏.‏ وحاصله‏:‏أني أرى القتال على أنحاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لتكون كلمة الله هي العليا‏)‏ حُكِي أن تيمورَ لما قَتَلَ قوماً وجمع هامات المقتولين ووضع عليها سريره، واستوى عليها ظلماً وعلواً، سأل علماءَهم عن قتله هؤلاء، فتقدم للجوابِ من كان أهدى منهم، وقال‏:‏ من قاتل لتكونَ كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله، ففطِن أنه رام به تخليص نفسه، فتركه‏.‏

باب‏:‏ السُّؤَالِ وَالفُتْيَا عِنْدَ رَمْيِ الجِمَار

وعند الترمذي‏:‏ السعي ورمي الجمار لإقامة ذكر الله‏.‏ ولما كان هذان الفعلان خاليين عن معنى الذكر ظاهراً، تعرض إليهما خاصة‏.‏ ونبه على أنهما أيضاً لإقامة ذكر الله، فإنهما كانا من أفعال المُقربين، فأدخلهما الله تعالى في الحج وجعلَ حِكاية أفعالهم وتذكيرها ذكراً برأسه‏.‏ ويفعلُ اللَّهُ ما يشاء ويحكمُ مايريد‏.‏

وغرضُ البخاري أن هاتين إذا كانتا عبادة فالسؤال في خلال الذكر قادحٌ أم لا‏؟‏ أو نظره إلى ما روى ما حاصله‏:‏ أن لا يقضي القاضي في حالة غير مطمئنة‏.‏ وهذا أوانُ الذكر، فهل يفتى في تلك الحال بشيء‏؟‏ والجواب على الأول‏:‏ أن الفُتيا ليس بقادحٍ في الذكر، لأنه أيضاً ذكر‏.‏ وعلى الثاني أنه جائزٌ للمتيقظِ الفطنِ‏.‏ ورأيت في تذكرة بعض المحدثين أن الطلبة كانوا يقرءون عليه، فكان يجيبُ كلاً في زمان واحدٍ، ويميزُ ما كان غلطهم من صوابهم، فهذا أمرٌ يختلفُ فيه أحوالُ الناس‏.‏ وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاءً‏.‏

باب‏:‏ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏

وفي بعض الروايات الصحيحة أن هذا السؤال كان في مكة‏.‏ وفي أخرى أنه كان في المدينة‏.‏ وعندي كلاهما صحيح‏.‏ واعلم أن الروح قد يطلق ويراد به المَلَك، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏تَنَزَّلُ الْمَلَئِكَةُ وَالرُّوحُ‏}‏ ‏(‏القدر‏:‏ 4‏)‏ وقد يُطلق ويقصد به المدبِّر للبدن، أعني الروح المنفوخة في الجسد‏.‏ وادعى الحافظ ابن القيم رحمه الله أن المرادَ منه في تلك الآية هو المعنى الأول‏.‏ وأما المعنى الثاني فلم يُذكر في القرآن إلا بلفظ النَّفس‏.‏ ولم يُستعمل هذا اللفظ في المدبِّر للبدن وإذن سؤالهم عن الملك‏.‏

قلت‏:‏ ولعل المراد منه ههنا هو المعنى الثاني، أي المدبر للبدن، لأن السؤال عنه هو الدائرُ السائر بين الناس‏.‏ أما الروح بمعنى المَلَك فلا يَعرفونَه غير أهل العلم، فينبغي أن تحملَ الآية على المتعارف وإطلاقه على المدبر البدن ثبت في الأحاديث‏.‏ روى الحافظ ابن عباس رضي الله عنهما أن الروحِ مخلوقٌ من مخلوقات الله تعالى‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ونقله السُّهيلي في «الروض» وجعله موقوفاً‏.‏

وما كنت أفهمُ مرادَه حتى طالعت كلام السُّهَيْلى رحمه الله فإنه قال‏:‏ إن نسبة المَلَك إلى الروح كنسبة البشر إلى الملك، فكما أن الملائكة ينظرون إلينا ولا نراهم، كذلك الروح ترى الملائكة ولا يرونها، فتبين أنه ليس مراده كونها مخلوقة لله تعالى فقط فإنه أمر ظاهر، بل المرادُ أنه نوع مستقلٌ مخلوق لله تعالى كالملائكة والإنسان‏.‏ والفرق بين الروح والنفس لا تجدُ ألطفَ من كلام السُّهيلي، فراجعه‏.‏ وما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى يبنى على مكاشفات الصوفية‏.‏

125- قوله‏:‏ ‏(‏من أمر ربي‏)‏ واختلفوا أنهم هل أجيب لهم فيها أم لا‏؟‏ فقيل‏:‏ لا، وقيل‏:‏ نعم‏.‏ ومنهم الغَزَالي، وكذلك اختلف في تفسير عالم الأمر والخَلْق، فقيل‏:‏ إن المشهودَ عالم الخَلْق والغائب عالم الأمر، فما كان من عالم الأمر لا يمكنُ فهمُ كُنْهِهِ لمن كان من عالم الشهادة‏.‏ وأن المرءَ يقيسُ على نفسه مثل سائر‏.‏ وقال المفسرون‏:‏ إن الخلق عالم التكوين والأمر عالم التشريع‏.‏

وحينئذٍ حاصل الجواب‏:‏ أن الروحَ من أمرها‏.‏ فوجدت من أمره تعالى‏.‏ ولما لم تُعطوا من العلم إلا قليلاً فلا ينكشفُ عليكم حقيقتها أزيد منه، وعلى هذا فكأنهم مُنعوا عن السؤال عنها والخوض فيها، فلا يجوزُ البحث فيها إلا بعد رعاية قواعد الشريعة‏.‏

وقال الشيخ المجدد السَّرهندي رحمه الله تعالى‏:‏ إن تحت العرش عالم الخلق، وما فوقه عالم الأمر‏.‏ وذهب الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى‏:‏ إلى أن ما خلق الله من كَتم العدم، بلفظ‏:‏ كن، فهو عالم الأمر‏.‏ وما خلق شيئاً من شيء كالإنسان من الطين، فهو عالم الخلق‏.‏

قلت‏:‏ والشيءُ الأول يقال له‏:‏ المادة، وهو مُسلَّمٌ عند الكل ولا ينكرها إلا مكابر‏.‏ أما الهيولي فليس بشيء إنما هو أوهامَهم غلبت عليهم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الوهم خلاق‏.‏ والذي تحقق عندي في بيان مراده أمر آخر ويتوقف على مقدمة وهي‏:‏ أن المتكلمين قالوا‏:‏ إن الفعل مختصٌ بذي شعور، ومَنْ لا شعور فيه فلا فعل له‏.‏ وأقر الطوسي في «شرح الإشارات» والصدر الشيرازي صاحب «الشمس البازغة»‏:‏ على أن للطبيعة شعوراً‏.‏

وأقول‏:‏ يمكن عندي أن يصدر الفعلُ ممن لا شعور له أيضاً، لكن لا بد من انتهائه إلى ذي شعور‏.‏ كما أن ابن سينا خمَّس الحركة وسمَّى نوعاً منها حركة التسخير‏.‏ والحاصل‏:‏ أن الفعل لا بد أن ينتهي إلى شعور أو إلى ذي شعور‏.‏ وإذا علمت هذا فاعلم أن القرآن لم يتعرض في الجواب إلى حقيقة الروح ومادتِهِ، بل ذكر العلة الصُّوْرية فقط، ويريدُ أن الروحَ محرِكٌ للبدن وانتهاء شعورها أمرُ الرب، فهذا علتها الصورية فقط‏.‏ أما حقيقتها فلا يعلمها إلا هو‏.‏

باب‏:‏ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الاِخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ فَيَقَعُوا فِي أَشَدَّ مِنْه

يريدُ أنَّ العملَ بالمرجوح مع العلم بالراجح جائزٌ إذا كانت فيه مصلحة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الاختيارات‏)‏ أي الجائزات‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلّم أراد أن يُردَّ بناء البيت إلى البناء الإبراهيمي، إلا أنه لم يفعله لما في الحديث‏.‏ وترك هذا الاختيار وهو موضع الترجمة‏.‏